الأحد، 6 يونيو 2010

الإعلام والمجتمع في عصر العولمة 2 من 6


يتبع ما قبله

الفصل الثاني

التبادل الإعلامي ووسائل الإعلام الجماهيرية الدولية

تحدثت في الفصل الأول عن المجتمع المعلوماتي وتداعيات العولمة، ودور وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية التقليدية في المجتمع المعلوماتي، عن طريق تكاملها مع الوسائل والتقنيات الحديثة. وحاولت تقديم بعض المقترحات التي قد تسهم في تعزيز دور وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية العربية على الساحة الدولية. وفي محاولة لتكامل الصورة التي حاولت توضيحها في الفصل السابق، أرى أنه لابد من استعراض واقع وسائل الإعلام المطبوعة ومصادرها المعلوماتية في بعض الدول المتقدمة والنامية ومن بينها الدول العربية طبعاً، ليتمكن القارئ من استجلاء الواقع وتقدير الظروف المحيطة بتلك الدول التي أصبح المجتمع المعلوماتي يطرق أبوابها بشدة، في نفس الوقت الذي أخذت العولمة تطبق فيه تدريجياً على مختلف مناحي الحياة في تلك الدول. وسأبدأ باستعراض موجز جداً لتاريخ نشوء وسائل الإعلام التقليدية التي تعتمد عليها تلك الدول حتى اليوم.

الصحافة المطبوعة

تعد الصحف من أقدم وسائل الإعلام في العالم على الإطلاق، فقد سبقت منافستيها الإذاعتين المسموعة والمرئية بعدة قرون. وللصحف خصائص تميزها عن سواها من وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، فالصحيفة لا تستطيع نقل الأخبار بتلك السرعة التي تنقلها بها الإذاعة المسموعة، ولا يمكنها نقل وتقريب الواقع كما تفعله الإذاعة المرئية، ولكنها تقوم بذلك بشكل متميز جعل من الصحيفة جزءاً لا يتجزأ من حياة الفرد المتعلم في كل أنحاء العالم. وبداية ظهور الصحف بشكلها المعاصر يعود إلى عام 1454م عندما اخترعت الطباعة عن طريق صف الحروف. وخدم هذا الاختراع المركز الرئيسي للسلطة في العالم المسيحي آنذاك، والمتمثل بسلطة الكنيسة. بينما تأخر استخدام هذه الوسيلة في طباعة الكتب والنصوص لعدة قرون في العالم الإسلامي بسبب التحريم الديني. (أنظر: د. جيهان أحمد رشتي: الأسس العلمية لنظريات الإعلام. ص 365 – 366؛ - د. شمس الدين الرفاعي: تاريخ الصحافة السورية، ج1، العهد العثماني. ص 17-24 ؛ - د. أحمد جاد الله شلبي: تاريخ التربية الإسلامية. ص 150 وما بعدها؛ - د. خليل صابات: تاريخ الطباعة في الشرق العربي. ص 34 وما بعدها؛ - جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج4 . ص 11؛ - William L: Rivers and Wilbur Schramm, Responsibility Mass Communication. New York, Harper & Row, 1969. p. 6)

وقد خدمت المطابع الكنيسة في نشر مواضيع تهم الدين والدنيا، وأصبحت من عوامل الإصلاح الديني في العالم المسيحي خلال الفترة الممتدة مابين القرنين السادس عشر والسابع عشر. ونشرت المطابع روائع كتب القرون الوسطى، وكتب عصر النهضة بنسخ كثيرة، ووضعتها بمتناول الجميع بعد أن كانت حبيسة خزائن الكتب. ونقلت أخبار التجارة والاقتصاد لرجال الأعمال والتجار في كل مكان. ولعل المنشورات مجهولة المصدر والهوية، التي لعبت دوراً كبيراً إبان الثورتين الفرنسية والأمريكية، من أبلغ الأمثلة على الدور الهام الذي لعبته الطباعة في تغيير العلاقات الإنسانية في المجتمع الإنساني المعاصر. وأصبحت الصحف بالتدريج حارساً للديمقراطية، بإتاحتها الفرصة للمرشح والناخب بالتعرف على بعضهما البعض دون اتصال مباشر، بل عن طريق انتقال الأفكار المنشورة على صفحاتها. وأصبحت من الوسائل الهامة التي يعتمد عليها التعليم في مختلف مراحله، وساعدت الصحف من خلال الإعلانات التي تنشرها على تصريف قدر هائل من السلع المنتجة في المصانع، وإيجاد فرص العمل، وتوفير الأيدي العاملة للباحثين عنها. (W. Schramm: One Day in the Wold's Press. pp. 3 - 6. - Harry Goldstein: "Reading and Listenning Comprehension at Various Controlled Rates" (N.Y.: Teachers College, Columbia University Bureau of Publications, 1940).)

وجاءت الثورة الصناعية للصحف مع مطلع القرن العشرين بالمطبعة البخارية أولاً، ومن ثم بالمطبعة الكهربائية، مما ساعد على خفض تكاليف طباعتها، أجور الإعلانات على صفحاتها وزيادة عدد نسخها، مما ساعدها على الانتشار الواسع وتحولها إلى وسيلة اتصال جماهيرية، رخيصة الثمن توزع أعداداً ضخمة من النسخ يعتمد عليها لنشر إعلانات مربحة للمنتج والناشر في آن معاً. ومن الميزات الهامة الأخرى التي تنفرد بها المادة المطبوعة عن غيرها من وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، أنها تسمح للقارئ بالتكيف مع الظروف ومطالعتها في الوقت الملائم له، وإعادة القراءة كلما أراد. إضافة إلى أنها من أفضل الوسائل لمخاطبة الجماعات والشرائح الاجتماعية الصغيرة والمتخصصة.

الصحافة المسموعة (الراديو)

وتعتبر الإذاعة المسموعة من أفضل وسائل الاتصال الجماهيرية قدرة على الوصول للمستمعين في أي مكان، بسهولة ويسر متخطية الحواجز الجغرافية والأمية. لأنها تستطيع مخاطبة الجميع دون تمييز وبغض النظر عن فارق السن ومستوى التعليم، ولا تحتاج لظروف وأوضاع خاصة للاستماع كما هي الحال بالنسبة للإذاعة المرئية (التلفزيون). حتى أنها أصبحت في بعض المجتمعات المتقدمة نوعاً من الوسائل الإعلامية التي يتعامل معها الإنسان دون اهتمام أو تركيز، كمصدر للترفيه أكثر من أنها مصدراً للمعلومات يحتاج للتركيز والاهتمام. (P. Lazarsfeld: Radio and the printed Page. (N.Y.: Duell Sloan and Pearce, 1940). - Lazarsfeld et al: The People's Choice, McPHee, New strategies for Recearch in the Mass Media. (N.Y.: Bureau of Applied Social Research, Columbia University 1953). - Leo Bogart: the Age of Television. (N.Y.: Frederick Ungar, 1956).)

ومن الصعب جداً تحديد أصل الاختراعات العلمية التي أدت إلى ظهور الإذاعة المسموعة، التي تعتبر اليوم واحدة من أهم وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. ففي الفترة من 1890 إلى 1894 اكتشف برافلي المبادئ الأساسية للمبرق اللاسلكي، ونجحت تجارب ماركوني التي أجراها خلال الفترة من 1894 وحتى 1899 عندما نجح في إرسال أول برقية لاسلكية عبر بحر المانش. (أنظر: رولان كايرول: الصحافة المكتوبة والسمعية البصرية. ص81.) وتطورت الأبحاث العلمية بعد ذلك، حتى استطاع المهندس الفرنسي رايموند برايار، وزميله الدكتور البلجيكي روبير فولدا سميث، من إرسال واستقبال بث إذاعي عن بعد عدة كيلو مترات عام 1914، وتوقفت التجارب بعد ذلك بسبب الحرب العالمية الأولى، إلى أن عادت مرة أخرى إلى دائرة الاهتمام بعد انتهاء الحرب مباشرة. وبدأت أولى البرامج الإذاعية اليومية المنظمة البث من ديتروا نيوز في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1920، وتبعتها بريطانيا التي نظم فيها دايلي مايل أول برنامج إذاعي في نفس العام. أما فرنسا فقد نجح الجنرال فيري من إرسال أولى البرامج الإذاعية عام 1921. وتعتبر العشرينات من القرن العشرين فترة هامة في حياة هذا الاختراع الهام، الذي لم تتوقف عملية تطوره وتوسعه حتى اليوم. ورافقه في عام 1925 اختراع البيك آب الكهربائي، وفي عام 1934 اختراع التسجيل على الاسطوانات المرنة، وآلة التسجيل عام 1945، وتمكن الأمريكيان براتان وباردن عام 1948 من اختراع المذياع، الذي انتشر في الأوساط الشعبية اعتبارا من عام 1950وتبع هذا الاختراع عام 1958 اختراع اسطوانة التسجيل الستريو التي نقلت البث الإذاعي معها إلى مرحلة جديدة. (نفس المصدر السابق. ص 81 - 85.)

الصحافة المرئية (التلفزيون)

وبدأت أولى التجارب على إرسال الصور الثابتة باللونين الأسود والأبيض عن بعد في منتصف القرن التاسع عشر، وتطور هذا الاختراع حتى استطاع الألماني دي كورن من اختراع الفوتوتلغرافيا عام 1905، وجاء بعده الفرنسي إدوارد بلين، الذي طور الاختراع الأول وأطلق عليه اسم البيلينوغراف عام 1907. واستمرت هذه التجارب بالتطور مستخدمة وسائل ميكانيكية أولاً ثم راديو كهربائية، حتى توصل كلاً من الإنجليزي جون لوجي بيارد والأمريكي س. ف. جنكيس إلى وسيلة إرسال تستعمل فيها اسطوانة دورانية مثقوبة عام 1923. وقد تكللت التجارب التي جرت خلال ثلاثينات القرن العشرين بالنجاح، حيث بدأ مركز أليكساندر بلاس البريطاني للبث الإذاعي المرئي بالبث الإذاعي المرئي لمدة ساعتين يومياً عام 1936، وتبعه المركز الفرنسي في لاتوريفال ببث برامج إذاعية مرئية يومية عام 1938، وتبعتها الولايات المتحدة الأمريكية في العام التالي ببث إذاعي مرئي لجمهور كبير. وأخرت الحرب العالمية الثانية البداية الفعلية لانتشار البث الإذاعي المرئي للجمهور العريض حتى عامي 1945 - 1946 أي عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وبدأ في خمسينات القرن الماضي الانتقال التدريجي إلى نظام البث الإذاعي المرئي الملون، وتبعه الانتشار العاصف للبث الإذاعي المرئي بواسطة الدارات المغلقة، ومحطات التقوية الأرضية، إلى أن انتقل البث الإذاعي المرئي عبر الأقمار الصناعية مع تطور غزو الإنسان للفضاء الكوني الذي بدأ في نفس الفترة تقريباً. ويعتقد أن للبث الإذاعي المرئي فاعلية فريدة لأنه الوسيلة التي تعتمد على حاستي السمع والبصر في آن معاً. وقد لوحظ أنه يستحوذ على الاهتمام الكامل للجمهور، أكثر من الوسائل الإعلامية الأخرى، وخاصة في أوساط الأطفال واليافعين. وقد كشفت بعض الدراسات أن الصغار والكبار على حد سواء يميلون إلى تقبل كل ما تقدمه الإذاعة المرئية دون مناقشة، لأنهم يعتبرونها واقعية وتعلق في أذهانهم بصورة أفضل. (أنظر: د. جيهان أحمد رشتي: الأسس العلمية لنظريات الإعلام. ص 368 - 369. و - H. Blumer: Movies and Conduct. (N.Y.: the Macmillan Company 1933); - W. Charters: Motion Pictures and Youth. (N. Y.: Macmillan 1933); - Doob, Propaganda: Its Psychology and Technique. (N.Y.: Henry, Holt and Company 1935))

والاختلاف بين البث الإذاعي المرئي والبث الإذاعي المسموع، أن البث الإذاعي المرئي يحتاج لحاستي السمع والبصر وانتباهاً لا يستطيع المتفرج معه أن يفعل شيئاً آخر أثناء المشاهدة، في حين أن المستمع للإذاعة المسموعة يستطيع أثناء استماعه أن يقرأ ويمشي ويعمل ويقود سيارته، أو أن يستلقي مغمضاً عينيه سارحاً في خياله. ومن المزايا التي يتميز بها البث الإذاعي المرئي عن سواه من وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية: - أنه أقرب للاتصال المباشر، ويجمع بين الصورة والصوت والحركة والألوان، ويتفوق عن الاتصال المباشر بأنه يكبر الأشياء الصغيرة، ويحرك الأشياء الثابتة. - وينقل الأحداث فور حدوثها، وبفارق زمني طفيف. - ويسمح بأساليب متعددة لتقديم المادة الإعلانية، مما يضاعف من تأثيرها على الجمهور. - وأصبح وسيلة قوية بين وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية بعد أن دخل كل بيت، ووفرت له الأقمار الصناعية المنتشرة في الفضاء الكوني وشبكات الحاسبات الإلكترونية انتشارا عالمياً، مما زاد من فاعلية عملية التبادل الإعلامي والثقافي العالمي، وأصبح وسيلة من وسائل التقارب بين الأمم والشعوب.

وهكذا نرى كيف تغير وضع الإنسان الذي عاش قديماً في مجتمعات صغيرة، محدودة العدد معزولة عن بعضها البعض، يصعب الاتصال فيما بينها. ليأتي القرن العشرين ليغير الوضع تماماً لسببين أساسيين نلخصهما: - بنشوب الحرب العالمية الأولى ( 1914 - 1918 )، والحرب العالمية الثانية (1939 - 19945)، وما تمخض عنهما من انتقال للقوات العسكرية عبر الدول والقارات. وهذا بحد ذاته ساعد على تطوير وسائل المواصلات البرية والبحرية والجوية، ومعها تطورت الطرق البرية والمائية والسكك الحديدية والموانئ البحرية والجوية. - وانتشار وسائل الاتصال الحديثة، من مبرق تلغرافي وهاتف وراديو وتلكس وفاكس وحاسبات إلكترونية (كمبيوتر) وبريد إلكتروني. ووسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، من صحف ومجلات وإذاعة مسموعة ومرئية. مما "أحدث تغيرات جذرية على تصورات المواطنين في جميع أنحاء العالم، اتسع معه أفق الأفراد وإطارهم الدلالي بشكل لم يسبق له نظير، بحيث لم يعد في الإمكان عزل الناس عقلياً أو سيكولوجياً عن بعضهم البعض. لأن ما يحدث في أي بقعة من بقاع العالم، يترك آثاره على جميع الأجزاء الأخرى من العالم. فالعالم اليوم هو قرية الأمس. فقد اتسعت تصورات الفرد التقليدي القديم التي كانت تتسم بالبساطة عن واقعه وأصبح عليه أن يجاهد حتى يفهم الأخبار التي تغمره بها وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية يومياً عن أحوال الأمم والشعوب الأخرى المختلفة الألوان والعقائد ". (أنظر: د. جهان أحمد رشتي: الأسس العلمية لنظريات الإعلام. ص 355.)

وخرجت وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية بالتدريج عن إطارها المحلي لتصبح أداة اتصال وتواصل بين الأمم لها دوراً مرسوماً ومحدداً في إطار العلاقات الدولية، وعملية التبادل الإعلامي الدولي. ودخلت ضمن الأدوات والوسائل التي تحقق من خلالها مختلف الدول والمنظمات الدولية والإقليمية والمحلية بعضاً من سياساتها الخارجية.

الصحافة الدولية

وتعمل المؤسسات الصحفية على نشر المبادئ والأفكار والمواقف والأخبار عن طريق وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية المختلفة بغرض الإقناع والتأثير على الأفراد والجماعات داخل المجتمع. وعندما تخرج هذه المؤسسات عن نطاق المحلية وتجتاز وسائل إعلامها الجماهيرية الحدود الجغرافية والسياسية للدولة، لنقل تلك المبادئ والأفكار والمواقف والأخبار لمواطني دول أخرى، لخلق نوع من الحوار الثقافي والحضاري معها، متجاوزة الحواجز اللغوية، تأخذ هذه المؤسسات الصحفية ووسائلها الإعلامية صفة الإعلام الدولي.

والإعلام الدولي جزء لا يتجزأ من السياسة الخارجية للدول المستقلة، ووسيلة فاعلة من الوسائل التي تحقق بعض أهداف السياسة الخارجية لكل دولة داخل المجتمع الدولي. وتخدم من خلالها المصلحة الوطنية العليا للدولة، وفقاً للحجم والوزن والدور الذي تتمتع به هذه الدولة في المعادلات الدولية، وتأثيرها وتأثرها بالأحداث العالمية المستجدة كل يوم. وخاصة عند نشوب أزمات اقتصادية أو سياسية أو عسكرية أو اضطرابات اجتماعية تطال تلك الدول، أو الدول المجاورة لها. أو تطال مناطق المصالح الحيوية للدول الكبرى في أنحاء العالم. أو في حال حدوث كوارث طبيعية وأوبئة، أو أخطار تهدد البيئة والحياة على كوكب الأرض. وللإعلام الدولي دوافع متعددة، تعتمد على المصالح الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والاجتماعية، والثقافية، والإنسانية، بما يتفق والسياسة الخارجية للدولة، وينبع من المصالح الوطنية العليا للدولة، وتعمل من خلال هذا المنظور على تعزيز التفاهم الدولي والحوار بين الأمم، الذي أدى إلى خلق تصور واضح للدول بعضها عن بعض، مفاده التحول من النظام الثقافي القومي التقليدي المغلق، إلى نظام ثقافي منفتح يعزز التفاهم الدولي ويعمل على تطويره. وكان لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية دوراً أساسياً في هذا التحول بعد التطور الهائل في تقنياتها خلال القرن الماضي. ساعدت من خلاله على إحداث تغيير ثقافي واجتماعي واضح، رغم تضارب المصالح الاقتصادية والسياسية والصراعات الإيديولوجية المؤثرة في القرار السياسي اللازم لأي تقارب أو حوار دولي.

وظائف الصحافة الدولية

ومن الأمور التي تميز البشر عن غيرهم من المخلوقات الحية أنهم قادرون على الاتصال، فالإنسان كان في حاجة دائماً إلى وسيلة تراقب له الظروف المحيطة به، وتحيطه علماً بالأخطار المحدقة به أو الفرص المتاحة له، وسيلة تقوم بنشر الآراء والحقائق وتساعد الجماعة على اتخاذ القرارات، وسيلة تقوم بنشر القرارات التي تتخذها الجماعة على نطاق واسع، وسيلة تقوم بنقل حكمة الأجيال السابقة والتطلعات السائدة في المجتمع إلى الأجيال الناشئة، ووسيلة ترفه عن الناس وتنسيهم المعاناة والصعوبات التي يواجهونها في حياتهم اليومية. وقد عهدت القبائل في المجتمعات البدائية بتلك المهام إلى الأفراد. فقام بعضهم بوظيفة الحراس الذين يحيطون القبيلة علماً بالأخطار المحيطة والفرص المتاحة، عند اقتراب قبيلة معادية من القبيلة الأولى، وهذا يتطلب استعدادا للدفاع عن الأرواح والأملاك، أو اقتراب قطيع من الحيوانات التي يمكن أن يصطادوا بعضها للطعام والزاد منها، فيكون هؤلاء الأفراد، القائمون برصد الحياة من حول الجماعة أشبه بمراكز الرصد والإنذار المبكر، في حالتي الخطر والأمان. كذلك عهدت القبيلة إلى بعض الأفراد "مجلس القبيلة" بسلطة اتخاذ القرارات عن احتياجات وأهداف وسياسات القبيلة الداخلية والخارجية، والتأكد من أن تلك القرارات ستنفذ. وكان لابد من وجود رسل يحملون الأوامر والمعلومات من مجلس القبيلة إلى أفراد القبيلة، أو نقل الرسائل والمعلومات إلى القبائل المجاورة. وكذلك كفلت القبيلة لنفسها وسيلة تساعدها على الاحتفاظ بحكمتها وعاداتها وتقاليدها وتراثها الثقافي للأجيال القادمة، ووسيلة وأسلوباً لنقل ذلك التراث الثقافي والعادات والتقاليد والحكمة إلى الأجيال الناشئة، فقام الآباء والشيوخ بتعليم الأجيال الجديدة، أو الأعضاء الجدد في القبيلة عادات القبيلة وتقاليدها. وعلمت الأمهات بناتهن طرق إعداد الطعام، وحياكة الملابس، كما علم الآباء أبناءهم فنون الحرب والصيد والقنص. وتولى الرواة الذين يحكون الحكايات والقصص عن أمجاد الآباء والأجداد، وما سلف من تاريخ القبيلة وظيفة الترفيه، والمغنون الذين ينشدون الأغاني المحببة، وأدى الراقصون الرقصات الدينية والفلكلورية في المناسبات المختلفة. (Schramm: " Communication Development and the Development Process," in Lucian Pye (ed) Communication and Political Development. (N. J.: Princeton University Press 1963).)

وبالطبع لم تكن تلك هي جميع مهام الاتصال والإعلام في القبيلة القديمة، ولكنها كانت أهمها. ومن الغريب أن تلك المهام هي نفس مهام الاتصال والإعلام في المجتمع الحديث، ولكن بفارق أن تلك المهام تؤدى اليوم بشكل جماهيري واسع جداً، وبأساليب وتقنيات حديثة متطورة بعيدة المدى أحاطت بالكرة الأرضية برمتها وتعدتها إلى الفضاء الكوني. ومع ذلك فنحن مازلنا في حاجة إلى معلومات عن الظروف المحيطة بنا، وتصلنا هذه المعلومات وبسرعة فائقة ودقة كبيرة عن طريق وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية التي باتت تستخدم أحدث وسائل الاتصال وشبكات المعلومات الإلكترونية المزودة بأحدث المعدات الإلكترونية والتجهيزات المتطورة باهظة التكاليف، تلك المعلومات التي تساعدنا على اتخاذ القرارات وتنفيذها. أي أن مهام الاتصال والإعلام التي وجدت في المجتمعات القديمة هي نفسها الموجودة من حيث المبدأ في المجتمعات الحديثة، والفارق الوحيد أنها أصبحت متعددة ومتشعبة وأكثر دقة اليوم بفضل وسائل الاتصال والإعلام الحديثة المتطورة التي لم تكن معروفة من قبل. وأصبحت الدولة حالياً أكثر من ذي قبل تشارك عن طريق ممثليها في التأثير على مجرى الحياة الاجتماعية في الداخل والخارج من خلال سياساتها الداخلية والخارجية مستعينة بوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، وأصبحت المصالح الوطنية العليا للدولة أكثر تأثيراً في عملية اتخاذ القرارات على الصعيدين الداخلي والخارجي. ودخلت وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية القرية والمدينة والتجمعات السكانية أينما كانت، وأصبحت بذلك نظاماً مفتوحاً أمام قوى التغيير التي تأتي من الداخل والخارج، ومعنى هذا أن الوظائف القديمة للإتصال والإعلام اختلفت في درجتها وحجمها فقط وليس في نوعها. ولكن لماذا كل هذا الاهتمام بوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية؟

والجواب: أن تلك الوسائل أصبحت تصل إلى جمهور واسع غفير. ووسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية التي كانت يوماً ما تصل إلى جمهور محدود وبتأثير محدود، أصبحت اليوم تصل إلى سكان العالم أجمع تقريباً، وتؤثر على آراء الناس وتصرفاتهم وأسلوب حياتهم. فالصحيفة والمجلة والكتاب الذي كان يقرؤه في الماضي عدد محدود من الأفراد، يقرؤه اليوم ملايين البشر، مطبوعاً أم منقولاً عبر البريد الإلكتروني وشبكات الحاسب الإلكتروني المتطورة. والبرنامج الإذاعي الذي كان يسمعه الناس في دائرة محدودة أصبحت تسمعه الملايين من البشر في مناطق متباعدة من العالم، وبرنامج الإذاعة المرئية الذي كان حكراً على منطقة جغرافية محدودة أصبح اليوم في متناول المشاهد عبر قارات العالم. والبريد الإلكتروني عبر شبكات الاتصال الدولية والفاكس والتلكس حلت مكان المبرقات التلغرافية القديمة، مما جعل الناس يؤمنون بأن تلك الوسائل قادرة على التأثير على المجتمع وتغييره بشكل أساسي ليس على الصعيد المحلي وحسب، بل وعلى صعيد العالم برمته. وبرز كإعلام دولي له مكانته وتأثيره ووظائفه. (أنظر: د. جهان أحمد رشتي: الأسس العلمية لنظريات الإعلام. ص 356 -357؛ - Alan Hancock: Mass Communication (London, Longmans, 1966) pp. 1-4.)

وكما كان للإعلام الدولي دوافعه المحددة، كما أشرنا سابقاً، فله وظائف محددة أيضاً يؤديها تنفيذاً للدور الذي تفرده له السياستين الداخلية والخارجية للدولة، وهي:

1- الاتصال بالأفراد والشرائح الاجتماعية والجماعات والكتل السياسية والمنظمات داخل الدولة التي يمارس نشاطاته الإعلامية داخلها. وتتمثل بالحوار مع القوى المؤثرة في اتخاذ القرار السياسي من شخصيات وأحزاب وكتل برلمانية، سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة على السواء، للوصول إلى الحد الأقصى من الفاعلية التي تخدم السياستين الداخلية والخارجية للبلاد.

وتخضع عملية الاتصال هذه عادة لمعطيات هامة من حيث المواقف من القضايا المطروحة قيد الحوار ومواقف السلطة والمعارضة منها والخط السياسي الرسمي للدولة حيالها. وتتراوح هذه المواقف عادة مابين المؤيد التام، والمؤيد، والحياد التام، والحياد، والمعارضة التامة، والمعارضة، والعداء التام، والعداوة. ولهذا كان لابد من التحديد الدقيق للموقف السياسي للدولة، والمواقف الأخرى، للعمل على كسب التأييد اللازم لصالح القضايا المطروحة للنقاش، والعمل على زحزحة المواقف السياسية المعلنة للدولة، لصالح تلك القضايا. أو خلق مناخ ملائم للحوار الإيجابي على الأقل. كما ويجب الأخذ بعين الاعتبار أيضاً طبيعة النظام السياسي السائد في تلك الدولة، ومدى ديمقراطية هذا النظام، وطرق اتخاذ القرارات السياسية في ظل النظام السياسي القائم، ومدى المشاركة الفعلية لكل القوى السياسية الموجودة في اتخاذ تلك القرارات. لأن الاتصال بالجماهير الشعبية في أي دولة يتم من خلال تلك القوى التي تمثل النخبة المؤثرة، أولاً: بين أصحاب الحق باتخاذ القرارات، وثانياً: على الجماهير الشعبية، التي هي بمثابة قوة ضاغطة على أصحاب حق اتخاذ القرار. ومن هنا نفهم مدى أهمية إلمام خبراء الاتصال والإعلام، والمخططون للحملات الإعلامية الدولية، بالنظم السياسية للبلدان المستهدفة والقوى المؤثرة فيها سلطة أم معارضة، ودور كل من تلك القوى في اتخاذ القرارات. لاستخدامها في التخطيط للحملات الإعلامية المؤيدة أو المضادة، آخذين بعين الاعتبار الحقائق الاجتماعية والثقافية التي تساعد على نجاح الحملات الإعلامية الدولية.

2- الاتصال المباشر بالجماهير الشعبية، عن طريق وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية ومن خلال النشرات الإعلامية، والمؤتمرات الصحفية، والمقالات، وصفحات WIB في شبكة الإنترنيت، والبرامج الإذاعية المسموعة والمرئية، والعروض السينمائية والمسرحية، وأفلام الفيديو، وإقامة المعارض الإعلامية، وتشجيع السياحة وتبادل الزيارات، وغيرها من الوسائل التي تتيح أكبر قدر ممكن من الصلات المباشرة مع الجماهير، للوصول إلى تأثير إعلامي أفضل وأكثر فاعلية. وتأخذ بعض الدول لتحقيق أهداف سياستها الخارجية أسلوب مخاطبة الجماعات المؤثرة فقط، توفيراً للنفقات التي تترتب من جراء استخدام أسلوب الاتصال بالجماهير الشعبية العريضة، وتوفيراً للوقت الذي يستغرق مدة أطول من الوقت اللازم عند مخاطبة قطاعات وشرائح اجتماعية متباينة من حيث المصالح والتطلعات، ومستوى التعليم، والثقافة، والاتجاه الفكري. ومزاجية تلك الجماهير العريضة في متابعة القضايا المطروحة، المحصورة في بوتقة اهتمامات شريحة اجتماعية معينة فقط. ولأن أسلوب الاتصال الفعال بالجماهير الشعبية يحتاج أيضاً لإمكانيات كبيرة ووسائل متعددة، تفتقر إليها الدول الفقيرة والنامية بينما نراها متوفرة لدى الدول المتطورة والغنية القادرة من حيث الإمكانيات المادية والتقنية والخبرات الإعلامية من استخدام الأسلوبين في آن معاً.

3- كما ويمثل الإعلام الدولي الدولة أو المنظمة التي ينتمي إليها، سواء أكانت محلية أم إقليمية أم دولية أم متخصصة أم تجارية. كمكاتب الأمم المتحدة ومؤسساتها المتخصصة في العديد من دول العالم، ومكاتب منظمة الوحدة الإفريقية، ومجلس التعاون الخليجي، والجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والأوبك، والسوق الأوربية المشتركة، وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية. ونحن عندما نرى اليوم الدول المتقدمة والغنية تستخدم كل تقنيات وسائل الاتصال الحديثة في خدمة حملاتها الإعلامية الدولية وفي إطار عملية التبادل الإعلامي الدولي المستمرة، ومن أبسط صورها قنوات الإذاعة المرئية الفضائية، بعد انتشار استعمال هوائيات استقبال البث الإذاعئي المرئي عن طريق الأقمار الصناعية في المنازل. وشيوع استخدام شبكات الحاسبات الإلكترونية حتى من قبل الأفراد، ومن أهم هذه الشبكات، شبكة "انترنيت" العالمية التي تملكها وتديرها الولايات المتحدة الأمريكية، دون منافسة تذكر حتى الآن. بينما نرى الدول النامية تتخبط بمشاكلها الإعلامية، وتعاني من الآثار المترتبة عن التطور التكنولوجي الحديث، والخلل الفاحش في التدفق الإعلامي الدولي أحادي الجانب والتوجه والتأثير، والذي من الصعب تسميته بالتبادل الإعلامي الدولي لأسباب عديدة. (أنظر: جواد مرقة: متخذو القرار الإعلامي العربي والمتوسطي والإفريقي)

مشاكل الصحافة الدولية في الدول النامية

ورغم الجهود الحثيثة التي بذلتها وتبذلها الدول الأقل حظاً، والدول النامية والفقيرة حتى اليوم، للخروج من المأزق الإعلامي التي تعاني منه، نراها تتخبط بمشاكلها الإعلامية التي تزداد تشعباً وتعقيداً كل يوم، بسبب التطور العلمي والتكنولوجي الهائل في ميدان وسائل الاتصال الحديثة، ووسائل الإعلام الجماهيرية حتى على الصعيد الوطني، ومن أهم تلك المشاكل التي تعيق المشاركة الفعالة للدول النامية في عملية التبادل الإعلامي الدولي: - الخلط بين الوظيفة الإعلامية الدولية، والوظيفة الإعلامية الإقليمية، والوظيفة الإعلامية المحلية، ومتطلبات كل من تلك الوظائف وخصائصها المتميزة. - والخلط بين السياسات الداخلية والإقليمية والخارجية للدولة عند التخطيط للحملات الإعلامية الدولية، والارتباك في تحديد أولويات عملية التبادل الإعلامي الدولي. - وضعف أجهزة وتقنيات المؤسسات الإعلامية الوطنية المعنية بعملية التبادل الإعلامي الدولي، وافتقارها للمعدات والتجهيزات المتطورة، والإمكانيات المالية اللازمة للقيام بحملات إعلامية دولية، أو استخدامها للاعتمادات المالية المتاحة محلياً أو في إطار برامج التنمية الدولية بشكل سيء، أو بشكل غير فعال في الأغراض المطلوبة، إضافة لسطحية المساعدات الخارجية التي تحصل عليها تلك الدول من الدول الغنية، والمنظمات الدولية المتخصصة. - والنقص الفاضح في الكوادر الإعلامية المتخصصة بالإعلام المحلي والإقليمي والدولي، وندرة أصحاب التخصص الأكاديمي في مجال تقنيات وأساليب الاتصال والتبادل الإعلامي الدولي المتطورة بينهم، مما يؤدي إلى: - اختيار كوادر غير كفوءة للعمل الإعلامي الدولي، لاعتبارات سياسية في أكثر الأحيان، وهذا بدوره يؤدي إلى: - غياب التنسيق بين المخطط والمنفذ وأجهزة المتابعة، في إطار عمليات التبادل الإعلامي والحملات الإعلامية الدولية. - وضعف الإلمام بخصائص الجمهور الإعلامي الأجنبي، وعدم وضع أسلوب إعلامي منطقي ملائم ومتطور قادر على إيصال مضمون الرسالة الإعلامية للجمهور المستهدف من الحملة الإعلامية الدولية. - وغياب التعاون وحتى التنسيق بين المؤسسات الإعلامية المعنية بعمليات التبادل الإعلامي الدولي، ومؤسسات التعليم العالي المتخصص ومؤسسات البحث العلمي، فيما يخص إعداد الكوادر الإعلامية الوطنية، والبحوث العلمية التطبيقية، وخاصة فيما يتعلق بدراسة راجع الصدى الإعلامي، وتأثير المادة الإعلامية، وفاعلية الخطط الإعلامية، والاستثمار الأفضل للموارد الإعلامية. والاكتفاء بالبحوث النظرية البحتة التي تتناول الجوانب الوصفية والتاريخية فقط، مبتعدة عن الدراسات التي تتناول جوهر التخطيط، وتحليل مضمون الرسالة الإعلامية، وتقدير راجع الصدى الإعلامي المخطط له وراجع الصدى الفعلي للمادة والوسيلة الإعلامية.

الصحافة الدولية والصراعات الدولية

خاصة وأن عالم اليوم يعاني من صراعات سياسية ونزاعات عسكرية عديدة، تشترك فيها الأسلحة المعلوماتية، في حرب معلوماتية غير مرئية تستخدم فيها أحدث الوسائل وتقنيات الاتصال والمعلوماتية، ووسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية تتفوق بها فقط الدول القادرة والمتقدمة في هذا المجال الهام من التطور الإنساني.

وفي مقدمة تلك الصراعات القضية الفلسطينية التي مازالت تهدد الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والعالم منذ أكثر من نصف قرن وأدت إلى عدة حروب مدمرة منذ قيام دولة إسرائيل بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 181 عام 1947 الذي قضى بإنشاء دولتين عربية وعبرية على أرض فلسطين، التي كانت آنذاك تحت الانتداب البريطاني. وبدأت تلك الحروب بالحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948 وانتهت باحتلال إسرائيل لقسم من الأراضي المخصصة للدولة العربية في فلسطين وإعلان الهدنة، التي استمرت حتى العدوان الثلاثي الإنكليزي الفرنسي الإسرائيلي على مصر عام 1956 وانتهى بانسحاب القوات المعتدية من الأراضي المصرية المحتلة. ثم العدوان الإسرائيلي على مصر والأردن وسورية عام 1967 الذي انتهى باحتلال الجيش الإسرائيلي لشبه جزيرة سيناء المصرية وقطاع غزة الفلسطيني الذي كان تحت الإدارة المصرية آنذاك، وكامل الضفة الغربية لنهر الأردن الفلسطينية والتي كانت خاضعة آنذاك للإدارة الأردنية، وهضبة الجولان السورية بعد إعلان وقف إطلاق النار. والحرب العربية الإسرائيلية عام 1973 التي خاضتها مصر وسورية مدعومة من بعض جيوش الدول العربية لتحرير الأراضي العربية من الاحتلال الإسرائيلي، وانتهت باحتلال إسرائيل لمزيد من الأراضي المصرية والسورية. لتعقبها المعركة السياسية من أجل تحقيق السلام في الشرق الأوسط، والتي تكللت بتوقيع أول معاهدة سلام بين إسرائيل والعرب، وهي المعاهدة الإسرائيلية المصرية المعروفة بمعاهدة كمب ديفيد، التي صمدت رغم الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية عام 1982 واحتلالها المستمر لجزء من أراضيه. وبدأت المسيرة السلمية الشاملة في الشرق الأوسط عام 1991 عندما أنعقد مؤتمر مدريد الدولي لحل قضية الشرق الأوسط بمشاركة جميع الأطراف المعنية، وأطراف دولية أخرى برعاية الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وما أعقبها من اتفاقيات سلام بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، ومعاهدة السلام الأردنية إسرائيلية، لتصطدم الجهود السلمية مرة أخرى بالتعنت واستمرار العدوان الإسرائيلي الذي يحول دون التوصل لسلام عادل ودائم في الشرق الأوسط.

ومن بؤر الصراع الخطيرة الأخرى في العالم، الصراع الباكستاني الهندي المستمر منذ أكثر من نصف قرن حول مقاطعة جامو وكشمير الحدودية المتنازع عليها بين الطرفين والذي يهدد بالانفجار في أي وقت كان خاصة بعد سلسلة التجارب النووية التي نفذتها الدولتين في أيار/ مايو 1998، معلنة عن بدء مرحلة جديدة في إطار سباق التسلح الجاري في القارة الآسيوية. والحرب الأهلية الدامية والمدمرة في أفغانستان، التي بدأت عام 1979 ضد التدخل العسكري السوفييتي في الشؤون الداخلية لأفغانستان، وتحولها بعد ذلك إلى حرب عرقية ودينية إثر انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان، تلك الحرب التي تهدد أمن واستقرار الدول المجاورة لها، وخاصة الدول المستقلة حديثاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، أوزبكستان وطاجكستان وتركمانستان وقرغيزستان. والتي أدت بعد أحداث 11/9/2001 في الولايات المتحدة الأمريكية إلى إعلان حملة عسكرية دولية ضد الإرهاب في إطار تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وأسفر عن القضاء على حكم حركة طاليبان في أفغانستان التي تنتظر عودة السلام والاستقرار لأراضيها، وعودة ملايين اللاجئين الأفغان إلى ديارهم.

إضافة إلى مناطق التوتر الجديدة التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، كالصراع في قره باغ بين أذربيجان وأرمينيا، والصراع في الشيشان بين الفيدرالية الروسية والمطالبين باستقلال جمهورية إشكيريا، والصراع في أبخازيا المطالبة بالاستقلال عن جورجيا، والحرب الأهلية التي لم تزل تعاني من آثارها طاجكستان، والصراع بين البوسنيين، والصرب، والكروات وألبان كوسوفو، فيما كان يعرف سابقاً بيوغسلافيا الاتحادية، والوضع الشاذ في ألبانيا عندما انهارت وبسهولة، أجهزة وبنى الدولة العسكرية والسياسية. والصراعات الكامنة الأخرى بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، والحرب الأهلية في الصومال وجنوب السودان، والخلافات الحدودية الإرترية اليمنية، والإرترية الإثيوبية، والوضع المتوتر في منطقة الخليج العربي، وغيرها من بؤر التوتر الكثيرة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، والتي هي بمعظمها من التركة الثقيلة للاستعمار الأوروبي الطويل في تلك المناطق. وقد بينت السوابق التاريخية أن لكل صراع أبعاداً داخلية، وأبعاداً إقليمية، وأبعاداً دولية، وعناصر قوى يجب مراعاة التفاعل بينها، وتأثير هذا التفاعل على تطور الصراع بشكل عام، بقصد التعامل مع تلك الصراعات ومعالجتها بالشكل المناسب، وهذا لا يمنع وجود عناصر مشتركة بين الصراعات المختلفة، يمكن الاستفادة منها عند الشروع بمعالجة تلك الصراعات أو التعامل معها. (أنظر: د. محمد علي العويني: الإعلام الدولي بين النظرية والتطبيق. ص18.)

وتعتمد النتائج النهائية لأي صراع من الصراعات، على عناصر القوى المتوفرة لدى كل طرف من أطرافه، وتضم هذه العناصر القوى العسكرية، والمعلوماتية، والتكنولوجية، والإمكانيات الاقتصادية، والسياسية، والبشرية، والحالة المعنوية للقوى البشرية. كما وتعتمد على مسائل أخرى كعنصر المفاجأة، وتطوير الإستراتيجية والتكتيك، واللجوء إلى أساليب جديدة غير معروفة من قبل كشن الحروب باستخدام أسلحة معلوماتية لم تكن معروفة من قبل ولا تتوفر لدى الكثيرين من أطراف الصراع، مما تجعل عملية التنبؤ بنتائج الصراع صعبة جداً، وفي بعض الأحيان غير مجدية. إضافة للإمكانيات الذاتية للأشخاص القائمين على إدارة الصراع، ومدى توفر المعلومات لديهم، والتقنيات والأدوات الحديثة التي يستخدمونها في الصراع. فصانع القرار في عملية الصراع يبني قراره على معطيات ملموسة أولاً، وعناصر غير ملموسة تشمل الخصائص النفسية والحالة المعنوية للخصم ثانياً. وتقتضي معالجة الصراع الاعتماد على العقلانية وبعد النظر، واستبعاد العواطف والانفعالات. لأن عملية معالجة أي صراع هي عملية معقدة وشاقة، ونابعة أساساً من عناصر القوى المشاركة فعلاً في الصراع من الجانبين، ومبنية على الحسابات الدقيقة والخطط الموضوعة، والمستخدمة فعلاً من قبل طرفي الصراع. وتتنوع أدوات الصراع، عندما تقتضي ظروف الصراع اللجوء إلى القوة العسكرية تارة، وإلى القوة الاقتصادية تارة أخرى، أو إلى العمل السياسي والدبلوماسية الهادئة في حالات أخرى، أو قد يلجأ الجانبان المتصارعان إلى استخدام القوة العسكرية، والاقتصادية، والسياسية، والدبلوماسية في آن معاً، مستخدمين المرونة ووسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية المتطورة في تكتيك إدارة الصراع وفقاً لطبيعة الظروف المتبدلة محلياً وإقليمياً ودولياً.

ويبقى دور وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية في عملية الصراع متمثلاً بتعبئة الرأي العام المحلي والعالمي حول وجهة النظر الرسمية للدولة من الصراع الدائر، وشرحها، وتغطية أخبار أهم أحداثها تباعاً. وشرح وتحليل أبعاد هذا الصراع وأسبابه، مع مراعاة أن يأخذ خبراء الإعلام والصحفيون بعين الاعتبار، خصائص الجمهور الإعلامي المخاطب ثقافياً وسياسياً وتاريخياً، ومدى تعاطفه مع وجهة النظر الرسمية للدولة المعنية في هذا الصراع، واختيار اللغة المناسبة للرسالة الإعلامية لتصل إلى أقصى حد ممكن من التأثير والفاعلية. لأن السلاح الإعلامي في أي صراع كان لا يقل أهمية عن القوة العسكرية والاقتصادية، وهو الوسيلة الناجعة لرفع معنويات القوى البشرية في الدولة المعنية، وتحطيم الروح المعنوية للخصم في الصراع الدائر، والإعلام الناجح هو السند القوي في الكفاح على الجبهة السياسية والعمل الدبلوماسي الهادئ والرصين والمنطقي.

يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق