الخميس، 11 أكتوبر 2012

محمد غنوم في تطلعاته التشكيلية الحروفية



تحت عنوان "محمد غنوم في تطلعاته التشكيلية الحروفية .. حيويــة التعامـل مـع تنويعــات الخـــط والكتابــة" كتب أديب مخزوم في صفحة ثقافة بصحيفة الثورة يوم 11/10/2012 مقالة قال فيها: مع رحلة الفنان محمد غنوم الطويلة في مجال إنتاج وعرض اللوحة الفنية التشكيلية، نجده ينحاز وبقوة نحو اللوحة الحروفية، وضمن النهج الحامل ملامح جمالية وإيقاعية خاصة ومتزنة ومقروءة في اكثر الاحيان، وبعيدة كل البعد عن الأجواء الحروفية العبثية والمتطرفة، التي ظهرت منذ مطلع السبعينات، في تجارب العديد من التشكيليين العرب، ولا سيما في لوحات شاكر حسن آل سعيد، صاحب فكرة وبيان البعد الواحد في التشكيل الحروفي العربي المعاصر.‏

د. محمد غنوم
حركات إنسيابية
ويذكر أن محمد غنوم بدأ حياته الفنية برسم الأحياء القديمة والطبيعة الصامتة والبورتريه بطريقة واقعية، مستخدماً كل أنواع التقنيات من زيتي ومائي وباستيل وخشب وأكريليك، ولم ينقطع في تلك المرحلة عن استعادة جماليات الخط العربي في لوحاته، الذي أدهشه منذ البداية بكل ما يحمله من خصوصيات جمالية خاصة ومتفردة.‏‏
ولقد سعى في لوحاته الحروفية، في مراحل سابقة، لإظهار المزيد من الإنسجام والتوافق بين إيقاعات الحروف والزخرفة العربية، وبين الرزانة والانسيابية، ثم بدأت تغيب عن لوحاته البنى الزخرفية، ما لبثت أن تحولت الحركات الخطية في لوحاته، إلى صياغات بصرية تفيض بالحروف والكلمات والجمل المتتابعة والمتداخلة كأنغام موسيقية، تمتد بين حركة الحروف والكلمات، في خطوات البحث عن العمق الجمالي والتشكيلي والإيقاعي والذاتي.‏‏

لوحة الخيل والليل
ولقد اتجه في معظم لوحاته، لإظهار العقلنة التي تتوازن مع حركة الانفعالات، وقدم التكوينات المدروسة، القائمة على دراسة متأنية لقواعد الخط العربي، مبتعدا في ذلك عن الارتجال والعبثية ومعطيات الصدفة، المتواجدة في أعمال عدد كبير من الفنانين الحروفيين العرب المعاصرين.‏‏
ففي أكثر الأحيان نجد في لوحاته ما يشبه الواحة أو الحديقة أو الأشكال الأخرى المكتنزة بالحروف والكلمات، حيث يجعل تكتلات الحروف تظهر أحيانا على هيئة رؤى تشكيلية، قادمة من تأملات مشاهد الطبيعة، ويخرج في أحيان كثيرة عن هذا السياق، محققا حرية وعفوية في تشكيل الحروف والكلمات، ومع ذلك فهو يعمل خلال تنقلاته وتحولاته، لإيجاد المزيد من الموازنة والموائمة، بين الاندفاعات العاطفية والرقابة العقلانية، رغم كل ما يبرزه من تحرر، في حركة الخطوط، من تلك السلطة الهندسية المعتمدة ضمن بعض عناصر اللوحة، وهو في كل الحالات، يعمل لتحويل الحروف إلى دلالات جمالية خالصة تتكرر وتتنوع من لوحة إلى أخرى.‏‏

لوحته موطني
دلالات مقروءة
ولقد استطاع محمد غنوم وخلال تجربة طويلة أن يكشف عن غنى حركة الحروف العربية وقدرتها على التواصل مع تطلعات الحداثة التشكيلية، وتجاوز الدلالات اللغوية المقروءة فيها أحيانا، وبذلك فهو يتطلع دائماً إلى بناء لوحة تلامس جوهر الحضارة العربية، وتنقل انفعالاته الحرة، بعيداً عن مأثورات التقاليد المألوفة في صياغة الكلمة والحرف، ذاهبا إلى ترجمة مشاعره وأحاسيسه الخاصة وتوجهه الجمالي الخارج على النظام الهندسي، وبالتالي فكل شيء في لوحاته يأتي بشكل عفوي، التكوين والإيقاع الحروفي والاسترسال العاطفي والوجداني، حيث يداخل ما بين الجمل والكلمات والحروف بكثير من التدفق الحيوي، و لقد سجل حروفياته السابقة في لوحات زيتية وقعت بين التجريد الهندسي الزخرفي والحروفي (معرضه في صالة الشعب في نهاية السبعينات) ثم ما لبث أن تحوّل نحو تجليات جديدة من خلال تعامله مع مادة الغواش (في لوحاته المتتابعة في الثمانينات والتسعينات والى اليوم) مؤكداً مسعاه الدائم والمتواصل في استلهام جمالية الخطوط العربية برؤية حديثة، تعمل على تصعيد حوارية المشهد البصري، وتركز على إبراز رشاقة الحرف وغنى حركته وانسيابيته.‏‏
ورغم هذا التضاد والتنافر، الذي هو في الأساس من المظاهر التي تتكرر في المخطوطات العربية القديمة، فإنه يقدم ألواناً مريحة وهادئة ونقية، يؤكد فيها أحيانا، على وجود اللون الذهبي كعلامة بارزة في الفنون الشرقية القديمة.‏‏
ورغم مظهر الانضباط التشكيلي الذي يعتمده، يمارس حريته داخل اللوحة، كأن يترك تكرارات الحروف تخرج على النظام الهندسي، أو يجعلها تنفلت من الإطار التسجيلي للكتابة التقليدية، لينقل من خلالها انفعالات حرة، حيث يصبح لتكرارات الحروف والكلمات وتدرج إيقاعاتها الأهمية الأولى، وبذلك يتجه في تشكيلاته الحروفية نحو الحيوية والحركة، وصولاً إلى التمسك بالمنطلقات التجريدية الحديثة لتسجيل فن معاصر بروح عربية.‏‏
تنويعات أشكال الخطوط
هكذا يتجه في لوحاته نحو استلهام عوالم ومعطيات الحركة الحروفية لبعض الخطوط، التي وجدها وعرفها واكتشف إمكانيتها التشكيلية منذ بداياته الفنية، حيث عمل ولا يزال، على إعادة تشكيلها من جديد وبطرق تقنية مختلفة على الورق والسطوح الأخرى، وهذا التنوع التقني والتشكيلي يمنحه انطباعات جديدة وإيقاعات لونية متفاوتة، كما لو أنه يستخدم المواد المختلفة والسطوح المتنوعة للوصول إلى شفافية وكثافة مختزنة في ذاكرة الكتابة، وتتواصل خطواته لإكمال مسيرته الفنية، والتعبير عن هواجسه الجمالية المرتبطة بثنائية التراث والمعاصرة، مؤكدا أحيانا على أيجاد جماليات التقارب والتباعد بين إنسيابية الحروف وبين المساحات اللونية المجاورة والمتداخلة.‏‏
وهو يركز لإبراز الإيقاعات الحروفية من خلال الحركات الرشيقة ومساحات اللون الموحدة، مبتعدا عن اللطخات واللمسات العفوية المتأثرة بأجواء اللوحة الأوروبية الحديثة ومحققا لوحة عربية حديثة، قائمة على دراسة أكاديمية متأنية لقواعد الخط العربي، بتنويعاته المختلفة: المتدرجة من فروع شجرة الخط الكوفي وأنواعه، إلى الأساليب اللينة وما تحمله من خطوط مثل (النسخي، الرقعي، التعليق، الثلث، الديواني) وبذلك فهو يبتعد كل البعد عن منزلقات الوقوع في هاوية التشكيل الحروفي العبثي، القائم على طروحات تنظيرية،لا علاقة لها بثقافة الخط العربي وبقواعده الإتباعية المتوارثة منذ قرون.
هكذا ازدادت قناعته، بضرورة التعلق بالحركة الخطية المتداولة في تراثنا وحياتنا اليومية، وساهم بدور إيجابي (منذ مطلع السبعينات) في إعادة الاعتبار لجمالية الكتابة العربية، وكان بذلك أحد أوائل الفنانين السوريين والعرب، الذين عملوا على ربط الاتجاهات الحديثة بالتراث وبتنويعات الذاتية الثقافية، ولقد استطاع أن يؤثر في مجريات الاتجاهات التشكيلية الشابة، ويساهم في دفعها خطوات الى الامام، وذلك بدفعها نحو استلهام مظاهر الفنون العربية، ودمجها بتنويعات الحداثة التشكيلية المعاصرة، ولاسيما ان تجربته انطلقت، منذ البداية، من دراسة لجميع أنواع الخطوط العربية، وبنيت على دراسة ا كاديمية، وبحث متعمق في جذور فن الخط العربي، الذي يحمل خصائص حضارية مستمرة ومتواصلة في كل الأزمنة والأمكنة العربية.‏‏
بطاقة
محمد غنوم من مواليد دمشق العام 1949، درس الفن في محترفات كلية الفنون الجميلة (من خريجي عام (1976 وحاز على درجة الدكتوراه في علوم الفن طشقند (أوزبكستان) عام 1992. ولقد أقام أكثر من 20 معرضا فرديا في سورية، و13 معرضا فرديا في عواصم ومدن عربية، و29 معرضا في عواصم ومدن عالمية، كما شارك في عدة بيناليات عربية ودولية، وعدد كبير من المعارض الجماعية والمشتركة، ودخلت بعض لوحاته في عدد من المتاحف داخل سورية وخارجها، وحاز على جوائز عربية ودولية (من ضمنها جائزة الشراع الذهبي بمعرض الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية السابع، والجائزة الأولى في مهرجان الخط في طهران، والجائزة الأولى في مسابقة الخط والموسيقى في فرنسا وغيرها، و تم تكريمه من قبل وزارة الثقافة السورية عام 2004.‏‏
تحية
وهنا لابد من إضافة حقيقة قد يجهلها الكثيرون، في بداية تسعينات القرن الماضي وصل محمد غنوم إلى العاصمة الأوزبكستانية طشقند قادماً من موسكو حيث عمل في المدرسة العربية هناك. وفي معهد العلوم الفنية التابع لأكاديمية العلوم الأوزبكستانية بدأ بإعداد رسالة علمية مكنته من الحصول على درجة الدكتوراه، وخلال تواجده في طشقند إلتقى بأعلام الفنون التشكيلية الأوزبك وتبادل معهم الخبرات الفنية واسعدني الحظ وحضرت جزءاً من تلك المناقشات التي دفعته لتنظيم أول معرض شخصي له في متحف الفنون الجميلة بجمهورية أوزبكستان، وأتبعه بمعرض شخصي في متحف الفنون الجميلة بمدينة بخارى، ومن ثم في صالة المعارض بالمجلس الأوزبكستاني لجمعيات الصداقة والعلاقات الثقافية مع الدول الأجنبية، وكلها حصلت على صدى واسع في أوساط الفنانين التشكيليين وتردد صداها على صفحات الصحف والمجلات المحلية، والأكثر من ذلك أن صداها يقف ماثلاً حتى اليوم في لوحات اقتبسها فنانون تشكيليون شباب من الخط الفني الذي عرضه د. محمد غنوم في لوحاته الجميلة الموجودة اليوم بين مقتنيات متحف الفنون الجميلة بجمهورية أوزبكستان، ومدينة بخارى، وأكاديمية الفنون الجميلة. ولا يسعني بهذه المناسبة سوى أن أقدم الشكر لكاتب المقالة أديب مخزوم ولصحيفة الثورة التي تتحفنا دائماً بمقالات عن رواد النهضة الثقافية في سورية الحبيبة.

هناك تعليقان (2):

  1. لست على كفاءة تقنعني بنقد الخط العربي والحروف، لكنني احب الجمال والفن، وهذا الجهد جذبني، والفضل يعود للفنان الكبير محمد غنوم، ولا ننسى البروفيسور والناقد الفني القديم الدكتور محمد البخاري، حفظه الله وبارك به، ولا حرمنا الله من اجتهاداته وكشوفاته التي يتميز بها في كل مجال من مجالات الحياة- نازك ضمرة

    ردحذف