الثلاثاء، 7 يونيو 2016

شهر رمضان المبارك في دمشق أيام زمان


اخترت لكم المقال الذي كتبه المفكر السوري برهان بخاري (رحمه الله وأسكنه فسيح جناته) تحت عنوان "شهر المجاهدة" وسبق ونشرته بتاريخ 28/1/1996 صحيفة "تشرين" الدمشقية، آملاً أن تعجبكم:


«لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي هي فيها، فوافق رمضان أيام رمض الحر وشدته فسمي به»، هذا ماجاء في المعاجم عن سبب إطلاق هذا الاسم على شهر رمضان، وأنا أوافق على هذه المقولة ليس لدليل علمي وقعت عليه بل لأن رمضان ارتبط في ذاكرتي بأشهر الصيف.

من بين صنوف الأطعمة والأشربة المطلوبة خلال شهر رمضان في «الأربعينات» كان الثلج ( البوظ ) شيئاً لا يمكن الاستغناء عنه إطلاقاً، لذا كان «أبو رياض» الحمصاني وبائع العرقسوس والثلج أهم شخص في «سوق ساروجا»، حيث كان يتجمهر الناس حلقات حول دكانه الصغير، ويعجز هو ومجموعة من أصدقائه، منهم أخي أبو عصام - الذي كنت أستغل وجوده كواحد من فريق العمل لتجاوز الدور - عن تلبية حاجات الزبائن، وكان مشهداً عادياً أن ترى الناس يهرعون وألسنتهم ممدودة كمقدمة السفينة تسبقهم بخطوة، وهم ينقّلون الثلج من يد إلى أخرى - لتخفيف الألم الذي تسببه البرودة الشديدة - إلى أن حدث الاكتشاف الرائع، وهو ربط الثلج بخيط مصيص وحمله من طرف الخيط بلا عناء. 
وكان مشهداً مألوفاً أيضاً أن يتجمع الناس الذين «ضرب المدفع» وهم في طريقهم إلى بيوتهم حول «الفيجة - صنبور المياه العام» وهم يتتابعون بالانحناء على الصنبور يشربون ثم يرفعون رؤوسهم بالطريقة التي يشرب بها الدجاج تماماً، ذلك لأنك حين تدعو «اللهم لك صمت ...» يجب أن تتوجه إلى السماء مباشرة، أما ماء الصنبور فكان عذباً بارداً سلسبيلا.
كان «المدفع» هو التوقيت المعتمد بالنسبة للجميع، وبالمناسبة فإن «نابليون» هو أول من أحدث هذه «البدعة»، وذلك حين أعلن إسلامه في مصر، حيث أمر بإطلاق المدفع عند المغرب ليعلم أن وقت الإفطار قد حان. وبمناسبة «البدعة» أذكر إحدى النقاشات التي دارت بيني وبين بعض المتشنجين، فقلت له: إن تسعين بالمائة أو أكثر من حياتنا العصرية هي بدعة ( السيارة - الطائرة - النظارة - البتوغاز - مدفع رمضان...)، فاعترض على فكرة كون مدفع رمضان بدعة اعتراضاً شديداً، فقلت له: يا رجل خاف الله! هل كان في أيام الرسول (ص) مدافع؟ 
المهم أن «المدفع» فقد مصداقيته الكلية كوسيلة للتوقيت حين أخطأ «المدفعجي» مرة وأطلقه قبل الوقت ببضع دقائق، فكان أن صدرت فتوى بوجوب إعادة صيام هذا اليوم بعد رمضان، وأذكر أن والدي رحمه الله، رغم ورعه الشديد المعروف، رفض هذه الفتوى، لأن مثل هذا الأمر كان عادياً في قريته السحيقة في أوزبكستان، فكثيراً ما كان يفطر الناس ثم تسطع الشمس، فالغيوم المتلبدة الكثيفة قد توهم المؤذن بأن الوقت قد حان، فلا «ساعة» هناك ولا يحزنون، فيؤذن المؤذن ثم تحدث فرجة بين الغيوم تطل منها الشمس.

ثمة نقطة أخرى لها علاقة بتاريخ المدفع، وهو أنه كان يحدث في رمضان عام 1948 أن تختلط أصوات المدافع المضادة للطائرات مع مدفع رمضان، لأن الصهاينة كان يحلو لهم أن يداعبونا فيوقتوا غاراتهم الجوية عند موعد الإفطار تماماً، فيحدث أن تنتقل نصف مائدة الإفطار إلى الملاجىء.
بدهي أن يمضي التطور في لعب دوره المستمر على كافة الصعد، لكن من المفيد جداً رصد هذا التطور بين فينة وأخرى، ولو حدث وتأسس عندنا بنك معلومات وطني يغطي كل صغيرة وكبيرة لاكتشفنا مثلاً أننا نستهلك من المواد الغذائية في شهر رمضان المبارك ما يفوق ضعف ما نستهلكه في أي شهر آخر، ومن هنا تأتي المفارقة الغريبة في أن يكون شهر الامتناع عن الطعام هو الشهر الذي نستهلك فيه من المواد الغذائية أكثر من أي شهر آخر، ومعروف طبعاً أن كثيراً من الأطعمة والأشربة لا نتناولها إلا في هذا الشهر الفضيل.
ولابد من الإشارة إلى أن رمضان هو طقس اجتماعي إضافة إلى كونه شهر عبادة، فمائدة الإفطار مثلاً تختلف اختلافاً كبيراً من قطر إلى آخر، فـ «الفول» والذي يشكل المادة الأساسية على مائدتنا قد ينعدم تماماً من الموائد في بعض الأقطار الأخرى، وبالمناسبة فإن الفول نفسه هو إشكال كبير إذ لم يكن معروفاً في الجاهلية أو أيام الرسول (ص) يدل على ذلك مثلاً ما ورد في اللسان «وفي حديث عمر: أنه سأل المفقود ما كان طعام الجن؟ قال: الفول»، وأعتقد أن هذا من أحد الأسباب التي تعطي الفول هذه القدرة الكبيرة على «الطرمخة والانسطال»، التي تعبر عنها بدقة جملة «أصله واكل فول»، ومن الوقت الذي عرفت فيه أن كلمة فول هي «زقوم» في السريانية - هذه الكلمة التي وردت ثلاث مرات في القرآن الكريم منها الآية الكريمة «ثم إنكم أيها الضالون المكذبون. لآكلون من شجر من زقوم» - وأنا أنظر إلى الفول بتوجس كبير، رغم عدم قدرتي على مقاومة التهامه، وبالأصابع العشر، خاصة إذا كان إلى جانبه تل من البصل والفجل والمخلل وغابة من الحشائش المتنوعة ودبجانة من زيت عفرين.
المهم في الموضوع أن بعض الطقوس الطعامية يمكن تطويرها وتعديلها، إذ يمكن أن تختفي بعض الأصناف أو يندر وجودها كـ ( كعب الغزال - الناطف - ليلة الله ... )، أو يدرج بعضها الآخر كـ ( الكافيار - القريدس ... ) في الفنادق التي يصعب عد نجومها.
وبالمناسبة فلقد أعجبتني العادات الخليجية والتي تتلخص بتناول بعض تمرات مع القهوة المرة، حيث يتم بعدها أداء صلاة المغرب ومن ثم يبدأ تناول الطعام، لكن الظاهرة الخطيرة التي لفتت انتباهي في الخليج هي تحول الليل إلى نهار وتحول النهار إلى ليل، الأمر الذي يصيب جوهر «المجاهدة» التي يتسم بها شهر رمضان المبارك بعطب كبير، فمن المعروف أن شهر رمضان قد تحول هناك إلى «مهادنة» دائمة مع «المجاهدة»، من عدم التوقف عن تناول الأطعمة المختلفة طوال الليل «وعلى كل ضرس لون» إلى متابعة ما تقدمه المحطات الفضائية من مسلسلات وفوازير «شريهان» وغيرها، والتي تحولت أيضاً إلى «على كل قناة لون».
صحيح أن الحياة المعاصرة قد خففت كثيراً من «المجاهدة» لكن لا بد من إعادة النظر في كثير من الأمور، فـ «التكنولوجيا» والتي هي «أم البدع» قد خففت مثلاً ما لا يقاس على «الحجاج» من استبدال الجمل بالطائرة، والذي جعل السفر نزهة بالقياس بما كان يعانيه الأجداد، فوالدي رحمه الله استغرقت حجته الأولى من أوزبكستان ثلاث سنوات ذهاباً وإياباً، لكن المهم هنا أن العدالة متوفرة للجميع فليس هناك «خيار وفقوس» أي ناس تحج بالجمل وآخرون يحجون بالطائرة.
أما في قضية قلب الليل نهاراً في رمضان فيتمايز الخيار عن الفقوس تماماً، ويظهر من هو «ابن الست» ومن هو «ابن الجارية» في أرتال العمال الذين لا يتوقفون عن تقديم الخدمات في كافة المرافق ولا يكفون عن الجهاد و«المجاهدة».
ولعل الأمر الأكثر إيلاماً هو أن جوهر الصيام - والذي من أهم مقوماته الفقهية الإحساس بما يعانيه الفقراء من جوع وحرمان - قد انحصر بالتفكير في الجوع الشخصي فقط وما يعنيه من انتظار للمكافأة في الموائد العامرة التي لا يكف الصائم عن الحلم بها طوال النهار، دون أن يفكر بإخوانه الفقراء.
وربما أن من أهم ما فقدناه الآن هو التواصل الاجتماعي بين طبقات الشعب المختلفة، ولا أعني تبادل الزيارات للمباركة والإفطار فقط، بل التواصل بأشكاله المختلفة، فـ «المسحر» مثلاً كان شيئاً مهماً في حياتنا، ونحن نراقب ترتيبه للأطعمة في «سلته»، مع عدم شعورنا بالملل من سماع حكاياته، وإصرارنا على سماع قصة «البرغوث» كل مساء، في حين أنه أصبح الآن شبحاً خافتاً لا يتوضح إلا حين يطالب بالعيدية.
وأذكر أنه لم تكن في حارتنا أية عائلة فقيرة، لذا كان والدي رحمه الله يرسلني مع ما يمنحه بعض الناس من صدقات إلى مدرسة «عبد الله باشا» في البزورية - التي تحولت الآن إلى معرض للصناعات اليدوية - حيث كنت أوزع المال وفق القائمة المعدة بدقة وأمانة، وكثيراً ما كنت ألتقي هناك بالصديق العزيز الفنان رفيق السبيعي أبو عامر - وكنا لا نعرف بعضنا وقتها، وذلك في أوائل الخمسينات - وهو يوزع بدوره ما قدمه فاعلو الخير من أرزاق ( سمن - سكر - أرز ... )، الأمر الذي لا يعني طبعاً عدم وجود مبادرات متفرقة الآن، لكنها لم تعد كافية، ناهيك عما يتصف به بعضها من برود وفوقية. ومع ذلك فمازلت أراهن على الدور الكبيـر الذي يمكن أن يلعبه الوازع الديني في تطوير وتنمية الوازع الأخلاقي، إذا ما أُحسن التعامل معه.
وبما أننا في أوائل شهر رمضان المبارك - أعاده الله علينا جميعاً باليمن والبركة - وبما أنه آن للقاصي والداني أن يعرف أن شهر رمضان قد أنزل فيه القرآن، لذا أتمنى أن يركز الإخوة رجال الدين على فكرة التكافل الاجتماعي، والتي هي من مفاخر الإسلام، بشتى الطرق بما في ذلك استخدام اللهجة العامية، لأن الغالبية العظمى من المثقفين - عشاق الفصحى - هم فقراء و«معترون»، أما الأغنياء فمعظمهم يميل إلى العامية ويفضلها، يبرهن على ذلك نوع المسلسلات التي يتابعونها في شهر المجاهدة وفي غيره من الشهور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق